المكان الذي يحتضن تداريب الرماية العسكرية كان مخصص أصلا للرعي
هنا بهامش الهامش، ببوذنيب، يعيش العديد من المواطنين، أفرادا وأسرا، مسربلين بالحزن والأسى، وذلك، لا لأنهم غارقون في مستنقع الفقر والبؤس والحرمان والتهميش فحسب، بل أيضا لأنهم، ولأسباب لا يد لهم فيها، ثكلوا فلذات أكبادهم وذويهم، أو أصيبوا بعاهات مستديمة، ومع ذلك، لم يلتفت إليهم أو يواسهم أحد ممن يعنيهم الأمر، بل تركوا يجترون معاناتهم وآلامهم في صمت.
منذ زهاء أربع سنوات، فقد المواطن "محمد زاحوط بن عبد الرحمان"، من جماعة وادي النعام ببوذنيب، ابنه "اعمر" البالغ وقتها ثلاث عشرة سنة من العمر، وذلك، جراء انفجار "قذيفة مدفعية" أهملتها إحدى الفرق التابعة للقوات المسلحة الملكية، بعد حصة تداريب أجرتها هناك، وذلك، عندما كان يرعى الغنم كعادته بالمكان المذكور.
تقول "حادة" أخته: " ذلك اليوم، خرجت مع أخي من خيمتنا، حوالي التاسعة صباحا، وذلك، قصد رعي الغنم، كعادتنا. جلسنا عند سفح الجبل، لكن، سرعان ما صعد أخي إلى قمته، من أجل إرجاع أغنام تسلقت إلى هناك. بعد هنيهة، سمعت دوي انفجار قوي، تلاه صعود دخان كثيف أسود. جريت اتجاه مكان الانفجار لمعرفة ما جرى، فإذا بي أفاجأ بجثة أخي ملقاة أرشا، بعد أن لم يتبق منها سوى القفص الصدري والرأس، أما بقية الجسد فتناثرت أشلاء هنا وهناك. هرعت نحو خيمتنا حيث توجد أمي لأخبرها بما وقع، فتوجهت مسرعة نحو مركز بوذنيب لتخبر أبي".
قبل هذا الحادث سقط آخرون، من بينهم خمسة أطفال (مولاي التهامي وسيدي محمد حمداوي، ومولاي مصطفى ومولاي هاشم هاشمي ومولاي الحسن بنعلال).
كان هؤلاء الأطفال، حسب شقيق أحدهم، متوجهين إلى "الگارة"، وهي عبارة عن بناية قديمة في قمة جبل صغير، كانت تستعمل، خلال فترة الحماية الفرنسية كبرج للمراقبة. وبينما هم في الطريق، عثروا، على أجسام غريبة (قنابل غير مفرقعة) مهملة، ولأنهم كانوا صغارا، أخذوا يلعبون بها، فإذا بها تنفجر عليهم، مودية بحياة أربعة منهم، فهرعت السلطات المحلية والعسكرية وجميع ساكنة بوذنيب إلى مكان الحادث، ونقلت الضحايا الأربعة إلى مستشفى بوذنيب، أما الضحية الخامس (مولاي هاشم هاشمي) الذي نجا بأعجوبة في هذا الحادث، بعدما فقد شقيقيه، فصرح لنا أنه، ونتيجة ما تعرض له من إصابات بليغة في مختلف أنحاء جسمه، نقل إلى المستشفى العسكري التابع للفوج التاسع بالبلدة نفسها، حيث تلقى الإسعافات الأولية، ليتم نقله في اليوم الموالي إلى مستشفى مولاي علي الشريف بالرشيدية حيث مكث حوالي شهر لمتابعة العلاج، ومنذ خروجه منه، وهو يعاني من عدة أمراض نفسية وعضوية، خاصة على مستوى الرجلين، إذ أصبح معاقا عاجزا عن ممارسة أي عمل، ويعاني من الخوف والاضطراب.
أما حسن معمار، (1961، قصر بوذنيب، مياوم، متزوج وأب لأربعة أبناء)، فصرح لنا أنه أيضا كان ضحية أجسام غريبة، وذلك سنة 1974، عندما كان في سن الثالثة عشرة من عمره. ذلك أنه، في الوقت الذي كان هو وأربعة من أصدقائه، من بينهم أخوه عمر الأصغر منه سنا، يرعون الغنم قرب المقبرة الفرنسية الكائنة شرق مدينة بوذنيب، عثر على علبة مهملة جانب القبور، بها أجسام غريبة. ونظرا لأنه كان صغيرا، فقد فرح بها ظنا منه أنه عثر على شيء ثمين يمكن أن يلعب ويتباهى به أمام أقرانه، ففتح العلبة، ووجد داخلها سبع خراطيش، وفي إطار حب الاستطلاع، حاول فتح هذه الخراطيش، وما كاد يضرب عليها بالحجر، ليرى ما بداخلها، حتى انفجرت عليه متسببة في بتر أصابع يده اليسرى.
ولعل المثير في هذا كله، هو أن السلطات لم تتخذ أي إجراء لصالح الضحايا أو ذويهم، بل إنها، في أغلب الحالات، استغلت جهلهم وحزنهم على ما ألم بهم وبذويهم، ونفضت يديها من الملف، بمجرد ما أنجزت محاضرها، وتركتهم يتكفلون بنقل المصابين وجثث الضحايا إلى المستشفى في سيارات خاصة، كما تركتهم يتكفلون بدفنها، دون أن تفكر في أي مبادرة لمساعدتهم أو تعويضهم والتخفيف عنهم.
ومن تجرأ منهم ونبش في الملف، أو طالب بالتعويض، كما فعل "محمد زاحوط"، إثر وفاة ابنه، فإن أقصى ما توصل به هو رسالة من الوكيل العام للملك لدى استئنافية الرشيدية، تخبره أنه تقرر حفظ الملف نظرا "لعدم وجود ما يبرر المتابعة، لكون الوفاة ناتجة عن انفجار قذيفة حسب التقرير الطبي ومعطيات البحث"!!!
هذا مع العلم أن الأماكن التي وقعت بها هذه الحوادث هي مجالات للرعي، ولا علاقة لها بالتداريب العسكرية، بل إنها غير مسيجة وليست بها علامات تمنع المرور أو الرعي فيها.
وهذا المعطى يزكيه محضر الدرك الخاص بالحادث الذي أودى بحياة الطفل "اعمر" إذ جاء فيه أن "المكان الذي وقع فيه الانفجار عبارة عن جبل يدعى (تابوريت) ب"محاذاة" ميدان الرماية المسمى الدفيلية التابع للقوات المسلحة الملكية"
كما أن المحضر أضاف أنه بعد متابعة عناصر الدرك الملكي للحملة التمشيطية وجدوا "بقايا القذيفة المتفجرة (وهي من عيار مورتيي عيار 18 مم رقم 9018 إضافة إلى ثلاث خراطيش من عيار 12.7 مم)" وأنه في اليوم الموالي، قامت عناصر الدرك الملكي "بحملة تمشيطية ثانية بمساعدة بعض أفراد القوات المسلحة الملكية التابعين للفوج الأول للمشاة الآلية ببوذنيب، أسفرت عن جمع مجموعة من الخراطيش من عيار 12.7 مم"
كما أن ما تعارف عليه رحل المنطقة، حسب بعضهم، هو أن خطر الاقتراب من هذا الميدان يكون أثناء قيام الجنود بعملية الرماية، ولحظتها، يتم إخبارهم من طرف السلطات المحلية، وينتهي الأمر بانتهاء العملية، وقيام عناصر القوات المسلحة الملكية بتمشيطه لجمع القنابل التي لم تنفجر، والتي قد تشكل خطرا على حياة المواطنين.
أكثر من ذلك، فالمكان الذي يحتضن تداريب الرماية، التي تنظمها القوات المسلحة الملكية ببوذنيب، والذي وقع فيه الانفجار الذي أودى بحياة الضحية "اعمر الزاحوط"، وغيره من الضحايا، هو أصلا منطقة مخصصة للرعي، فضلا عن أنه حاليا مخصص لاحتضان مشاريع استثمارية خاصة في مجال الفلاحة، كما أنه منطقة تدخل في الملك الجماعي التابع لجماعات قصور تازكارت وبوذنيب والطاوس ، وهي منطقة محددة، منذ سنة 1949، تحت رقم 283. أما الميدان القانوني المعترف به، الذي كان يستعمل للرماية سابقا، وإلى عهد قريب كما هو في علم العموم، فيوجد بسافلة الجبل الكائن غرب قصر الطاوس، المشيد فوقه برج للمراقبة، والمعروف ب"الگارة" والذي كانت جماعة بوذنيب فوتته إلى الإدارة العسكرية الفرنسية خلال فترة الحماية، في عشرينات القرن الماضي، كما أن القوانين المنظمة لفضاءات الرماية تستوجب التسييج، ووضع علامات تبين حدودها ومعالمها، حتى لا يدخلها عامة المواطنين، وحتى يتسنى للقائمين على الشؤون العسكرية إحصاء القنابل التي لم تنفجر أثناء عمليات الرمي، وحراستها إلى حين التخلص منها من طرف الجهات المختصة التابعة للهندسة العسكرية.
ومعلوم أن هؤلاء الضحايا يتحدرون جميعا من أسر وعائلات مغلوبة على أمرها، بل غارقة في مستنقع الفقر، وتعيش ظروف القهر والحرمان من أبسط متطلبات الحياة، لذلك، فإن إعاقتهم أو فقد بعض ذويهم يشكل خسارة فادحة لهم، ويساهم في تكريس وضعهم.
لذلك، فإنهم وأولياءهم ما فتئوا يطالبون الجهات المسؤولة بالتحقيق في هذه الحوادث الذي أودت بحياة ذويهم، أو تسببت لهم في إعاقات وعاهات مستديمة، آملين أن يتم تحديد المسؤوليات وإنصافهم من إهمال وتقصير الجهات المسؤولة التي تسببت في مآسيهم، وجبر أضرارهم وتعويضهم عما لحقهم من خسائر وأضرار، ليس لهم فيها أي ذنب أو مسؤولية. كما يطالبون بالكف عن استبلادهم وتقديم الوعود العرقوبية لهم، كما حدث مع مولاي هاشم هاشمي الذي طلب منه، منذ أزيد من سنتين، أن يعبئ طلبا للحصول على رخصة سيارة أجرة، وهو حتى يومنا هذا مايزال ينتظر.
ضحية قنبلة بعين الشعير
احساين البركي (1943، الريصاني، عاطل عن العمل، متزوج و أب لسبعة أبناء) ضحية أخرى من ضحايا المتفجرات المهملة بالمنطقة، وقد صرح لنا أنه، في التاسعة عشرة من عمره، كان ضحية انفجار قنبلة بالمكان المدعو "الموليمة" التابع لقيادة عين الشعير، بعمالة بوعرفة، وذلك، لما كان يرعى الغنم، إذ وجدها مهملة بالمكان المذكور، فأخذها قصد استغلالها كإناء لغرف المياه، دون أن يعلم أنها قنبلة، ولما حاول فتحها، انفجرت عليه، وتسببت في بتر يديه، اليمنى على مستوى الكوعين، واليسرى تحت المرفق، فنقل إثرها من طرف راع كان قريبا من مكان الحادث إلى خيمتهم، وبعدها، حضرت مصالح الدرك الملكي التابع لبوعرفة، وتم نقله إلى مستشفى بوعرفة لتلقي العلاجات الأولية، ومن ثم نقل ثانية إلى مدينة وجدة حيث خضع للعلاج لمدة تزيد عن شهر.
وأكد الضحية أنه، ونظرا لصغر سنه، وجهل أبويه الرحل، لم يقوموا بأي إجراء من أي نوع، بالإضافة إلى إهمال السلطات التي لم تول هذا المشكل أي اهتمام، وكأن شيئا لم يقع، لأجل ذلك، فهو يطالب الجهات المسؤولية حاليا بالتحقيق في هذا الحادث الذي كان سببا في المأساة التي يعيشها اليوم، لأنه أصبح معاقا، ما منعه من ممارسة أي عمل يمكن أن يساعده على تلبية حاجياته وحاجيات أسرته المكونة من تسعة أفراد، والتي لا تتوفر على أي مصدر قار للعيش، آملا تحديد المسؤوليات حتى لا يضيع حقه، وحق أبنائه، وبالتالي إنصافه، وتعويضه عن هذه الخسارة الكبرى التي ليس له فيها أي ذنب أو مسؤولية، لا من بعيد ولا من قريب.
علي بنساعود (عن جريدة الصباح)
[email protected]